قلب ثعبان شجاع
رفيقي
وأنا كُنّا في زيارة عمل للصين عام 1998، وفي أحد أيام الزيارة وبعد يوم مُرهق من التنقل بين المصانع
المتباعدة والتي غالبا ما تقع في وسط الأرياف لرخص الايدي العاملة فيها وتواضع تكاليف
الانتاج، أقامت الشركة المُضيفة لنا حفل غداء في مطعم راق بمدينة (نانجنغ) حضره رئيس
الشركة وكبار المدراء التنفيذيين فيها.
رفيقي
وأنا كُنا جائعين جدا وبحاجة الى وجبةٍ ساخنة تُدفئ اجسادنا سيّما ونحن في شهر
الصقيع ديسمبر حيث تشتد الرياح هناك ويصبح الطقس شديد البرودة.
دخلنا
صالة طعام منفصلة عن طاولات الزبائن ويبدو بأنها مخصصة للحفلات والمناسبات
الرسمية. الصالة دافئة ويطغى اللون الأحمر على كل مكوناتها، وفي وسطها طاوله
دائرية كبيرة تُحيط بها الكراسي بعدد الحضور، ويتدلى من السقف المرتفع ثُريا ذات أضواء
حُمر تكاد تلامس مركز الطاولة.
بعد
جلوسنا وسماع كلمة ترحيبية من قبل الرئيس حضر كبير الطهاة (الشيف) وسرد الأطباق
التي سيتم تقديمها لنا وقد ترجم كلامه الى الانجليزية فتاة صينية تبلع نصف الحروف.
ما أثار
دهشتي هو سماع اسماء طيور وزواحف وحيوانات فقلت في نفسي لعلها أسماء للأطباق
كطبق البط البكّيني (نسبة الى بكين) والغزال العربي والسلمون النرويجي وغيرها.
لكن
المفاجأة أن الشيف عرض لنا صينية يحملها نادل عليها قطعة لحم غريبة قائلا: أن الطبق القادم يحوي لحم هذه السلحفاة
الصغيرة بعد أن تم نزع درعها!
كانت السلحفاة المسلوخة مقطّعة وتم تجميع أوصالها كما لو كانت ستتحرّك.
شعرتُ بالغثيان فكيف لي أن آكل لحم سلحفاة مطهو على البخار مع البروكلي والسبانخ؟
المطبخ الصيني كما هو معروف لا يُقدّم الخبز مع
أيّ طبق وهنا تكمن الورطة!
حين بدأ النادل توزيع الأطباق أعتذرت طالباً عدم وضع الطبق أمامي. وبعد أن اكتمل التقديم طلب الرئيس منّا البدء في تناول الطعام وهو يخزّني بطرف عينة وكأنه يقول : لماذا يعفّ هذا الصحراوي عن تناول أفخر طبق كلّفنا أموالا طائلة؟
الغريب أن
رفيقي التهم ما في طبقة بتلذذ!
قلت في نفسي آملاً، لعل مكونات الطبق التالي تكون مألوفه مقبولة.
بعد أن جُمِعتْ الصحون الممسوحة على الآخر، أتى الشيف كما في المرّة السابقة
وأخذ يشرح مكونات الطبق القادم.
خُيّلَ لي كأن في الصينية التي يحملها نادل آخر سمكة طويلة مقطّعة على هيئة دوائر كإطارات صغيرة واذا بالطاهي مزهوا يقول لحم ثعبان تربّى على فئران الغابة مقلي بزبدة حليب ماعز جبليّ و مغطى بطبقة ساخنة من كريمة النشأ والمشروم ثم انصرف مخلّفاً ابتسامته
المطاطيّة.
كل هذا
كوم وما تبعهُ كوم آخر، اذ عاد الرجل مسرعا وهو يحمل بنفسه هذه المرّة صينية من فضّة يتوسطها كأس كريستال على هيئة قمع مختبر وفي قاعه مثل حبة الزيتون الكبيرة
مغمورة في سائل ورديّ (ساكي) سلّمه لرئيس الشركة الذي بدورهِ تناول الكأس ورفعه عاليا وهو
يقول: اننا نحتفل اليوم بضيوف أعزّاء أتوا من الشرق الأوسط ونحن هنا في الصين
نكرم ضيوفنا بأفخر ما لدينا فمن منكما الرئيس؟
أشرت
فورا الى رفيقي قائلاً هذا هو الرئيس بكل تواضعه.
فناوله الكأس
قائلا: يسرّني تقديم هذا الكأس لك فهل تسمح لنا بشرف شرب نخب صداقتنا، ولعلمك يا سيدي هذا المشروب
لو سمحت يؤخذ دفعه واحده بما فيه بلع مكوناته لأنه سيجلب لك الحظ في كل مشاريعك القادمة.
تناول
رفيقي الكأس مبتسما وقرّبه الى فمه فاشتم رائحة الكحول وهو ليس شرّيباً
محترفا فوقع في الورطة. سدّ أنفه بأصبعيه
وجرع الكأس بما فيها ثم أطلق زفيرا طويلا وقد أحمرّ وجهه.
صفّق
الجميع فقال الرئيس أنت من الآن تحمل قلب ثعبان شجاع بجانب قلبك؟
قال
رفيقي: كيف؟
قال
الرئيس: لقد ابتلعت للتو قلب الثعبان الذي سنتناول لحمه اللذيذ بعد قليل!
بدا أن
صاحبي أُخِذ على حين غِرّة فتناول جُرعة من الماء وهو يضحك ليداري الحرج الذي وقع
فيه، وبعد لحظات إستأذن للذهاب الى دورة المياه بحجّة تلبية نداء
الطبيعة.
عاد وقد
علا وجهه الشحوب وبقايا من طعام على شفته السفلى لم يزلها، فأدركت بأن الطبيعة قد
قست عليه بالفعل.
طوال بقيّة
أيام الزيارة وصاحبي متعكّر المزاج وأنا أشجّعه بالتماسك سيّما وفي صدره قلب ثعبان
شجاع.
aalkeaid@hotmail.com
No comments:
Post a Comment